Menu
في المغراقة يجلسون فوق أنقاض منازلهم ويقيمون الصلاة بين الأطلال

في المغراقة يجلسون فوق أنقاض منازلهم ويقيمون الصلاة بين الأطلال

بلدة اختفت معالم ساكنيها في المغراقة يجلسون فوق أنقاض منازلهم ويقيمون الصلاة بين الأطلال   قــاوم- قدس برس: ما سطّرته الأقلام والتقطته الكاميرات طوال الأسابيع الماضية في قطاع غزة، غدا قطرة صغيرة في محيط الدمار والأنقاض، فالأقدام تقف على الخراب والدمار، والعيون تستكشف المأساة، واللسان يحتار في البحث عن مفردة تليق بوصف ما صنعته آلة الحرب الإسرائيلية. يبدو زلزالاً عنيفاً، بل كارثة كبيرة، تلك التي ضربت المكان، فهنا قرية المغراقة، الواقعة إلى الجنوب من مدينة غزة، والتي غيّر جيش الاحتلال الصهيوني معالمها خلال أيام معدودات، وعاث فيها تخريباً وأمعن فيها قتلاً وتدميراً بما لم تعرفه القرية على مدار تاريخها. حوصرنا في المنازل يروي المواطن صلاح الوحيدي (36 عاماً)، من سكان المغراقة، ما حلّ بهم قائلاً :’لما أعلن الاحتلال عن بدء عمليته البرية على قطاع غزة، بعد أسبوع من القصف الجوي، وفي الساعة السادسة والنصف من صبيحة يوم السبت (3/1)، فوجئنا بوجود الدبابات الصهيونية واقتحام المنطقة، وصولاً إلى محررة نتساريم، فحوصرنا في منازلنا، ولم نستطع الخروج منها لمدة ثلاثة أيام’. ويضيف الوحيدي :’كنّا حوالي ثلاثين شخصا متواجدين في المنزل، ونظراً لشدة الانفجارات وإطلاق النار بشكل عشوائي، جازفنا وخرجنا من بيوتنا تحت إطلاق نار كثيف’. ويستذكر الوحيدي لوكالة ’قدس برس’، ما جرى بعد ذلك فيقول :’هربنا إلى مدرسة ’الأونروا’ المتواجدة في مخيم النصيرات المجاور لنا، عشنا خلالها أياماً صعبة من تشرّد ونقص في الخدمات’. وبصوت يملؤه الألم تابع :’شعرت بالصدمة بعد أن اندحر الاحتلال وعدنا إلى بيوتنا، فقد رأيناها أكواماً من الحطام والحجارة، يختلط بها أثاث بيوتنا(...) فما بنيناه على مدار سنين وعايشنا بناءه حجراً حجراً، رأيناه بعد الانسحاب وكأنه لم يكن، إنها بداية رحلة شقاء وعناء جديدة’. وفوق أكوام الركام التي كانت منزلاً ذات يوم، تقف طفلة بثياب رثة كساها الغبار، وأخذت تبحث تحت الأنقاض عن أقلامها ودفاترها وبقايا ذكريات خلت. وفي الموقع ذاته، بدا الطفل حمدي، ذو السنوات العشر، واقفاً فوق حطام منزله، يبكي جدّه وعمّه اللذين استُشهدا فيكفكف دمعه، ويقول :’عند تقدم الدبابات اختبأنا داخل المطبخ كلنا، ومن ثم دخلت قوات الاحتلال علينا وقامت بقنص عمي وجدي، وقاموا أيضاً بقتل الأغنام والأبقار ودمروا كل شيء’. ويضيف الطفل المكلوم :’اليهود مجرمون لا يرحموننا، فأنا أكرههم وأدعو عليهم بأن يموتوا ويخرجوا من أرضنا’. ’حسبنا الله ونعم الوكيل’، بهذه الكلمات أخذ المواطن عصام عزام (40 عاماً)، يتفقد منزله الذي أصبح أكواماً من الحجارة، ويقول :’هدموا كل بيوتنا، وخرجنا منها بالملابس التي نرتديها فقط، وعندما عدنا وجدنا كل شيء مدمراً، منازلنا كلها سُوِّيت بالتراب، ومئات الدونمات المزروعة بالحمضيات والعنب والزيتون التي كانت مصدر رزقنا الوحيد كلها دُمِّرت أيضاً’. وأضاف عزام بصوت تملؤه الحسرة :’أكثر من سبعين عاماً ونحن نعيش هنا، لقد وُلدت هنا، ووالدي من قبلي أيضاً وُلد هنا، فمنازلنا لها أكثر من ثلاثين عاما وقبلها كانت منازلنا من الطين’. وتابع :’قامت قوات الاحتلال بقتل ابن عمي، عطا عزام، واثنين من أبنائه، وقمت بتجميع أشلائهم من بين حطام المنازل’. وفوق الأنقاض أقام المواطن إبراهيم دلول خيمته، ليعيد للأذهان ذكرى النكبات التي عاشها الشعب الفلسطيني علي مر قرن من الزمان، فيقول بكل حزن :’ما قاسيناه لم يقاسه أحد، لقد قامت قوات الاحتلال بقتل أبنائنا وتدمير منازلنا، وقد حاولت جاهداً أن أتعرّف على بيتي وسط الركام فأصبحت أتجه إلى الشرق تارة وإلى الغرب تارة أخرى، إلى أن أعياني التفكير فجلست منزوياً على ركام البيوت التي اختلطت حجارتها بعضها ببعض’. وأكمل دلول وعيناه تغرقان بالدموع :’لا أعرف أين بيتي، هذه الحجارة أم تلك الأكوام أم ما تبقى من حطام هذه الغرف، فلقد خلطت جرافات الاحتلال الحابل بالنابل، وأكل الاحتلال الأخضر واليابس، فتحت الأنقاض فقدنا كل شيء’. وتقول المواطنة زينة الحسنات (66 عاماً) :’هربنا وكل الجيران إلى بيت جارنا ’أبي عواد’، ولكنهم خرجوا يحملون الرايات البيضاء، ولم أخرج معهم وبقيت بجوار بيتي وأغنامي، متوقعة بأنّ كبر سني كفيل بأن يرحمني منهم، ولكنّ الاحتلال لم يميِّز بين شاب وعجوز، فقد كان يضرب في كل مكان وعلى كل شيء، حتى الحيوانات لم تسلم من اعتداءاتهم’. أما ’أم حسن’، التي تجلس في بقايا منزلها الذي لا يصلح لسكن والمعرّض للسقوط في أية لحظة، فتشرح بقولها :’كنا نشعر بالموت بين لحظة وأخرى، وحُجزنا ثلاثة أيام قضيناها تحت بيت الدرج (أسفل سلم المنزل) أنا وأبنائي، ومن شدة القصف جمعت أطفالي وهم يصرخون من كثافة الرصاص وهدير الدبابات والجرافات وهربنا مسرعين للخارج’. وتشير الأم الفلسطينية إلى الجانب الذي هُدم من منزلها، وتقول :’تحت هذا الركام دفنت حقائبهم الدراسية وكتبهم ولم نتمكن من إخراجها’، موضحة أنّ ابنتها الكبرى وفاء تشتكي من أذنيها، حيث أنها لا تستطيع السمع جيدا من تلك اللحظات جراء شدة الانفجارات. ومع كل خطوة بدت العديد من المنازل وقد اخترقها الرصاص والقذائف، وحوّلتها إلى أطلال، وعلى أنقاض ’مسجد بلال بن رباح’، كان يصطف عدد من المصلين ليقيموا صلاتهم كما اعتادوا، لكن هذه المرة في الخلاء وعلى الركام. ويقول إمامهم كمال أبو خبيرة :’هذا المسجد أُسِّس منذ عام 1975 تقريباً، فمن مفترق الشهداء على شارع صلاح الدين وصولاً إلى البحر لا يوجد أي مسجد غيره، فقد كان عبارة عن مصلى صغير للمواطنين تقام فيه الصلوات منذ القدم’. وأشار الإمام إلى أنّ قوات الاحتلال سبق وأن قامت بهدم المسجد خلال أعوام ’انتفاضة الأقصى’، وتم إعادة بنائه وترميمه، شارحاً أنّ هذا المسجد تُقام فيه النشاطات الرياضية للشباب وتحفيظ القرآن للفتيان، بجانب الشعائر الدينية. وبكل ألم يكمل الإمام فيقول :’نجتمع في المسجد خمس مرات، ففقدانه كان وقعه على أنفسنا أكثر من هدم بيوتنا، فمن خلاله نتصل بالله عز وجل’، ويضيف :’أكثر ما يؤلمني هو حزني الشديد على المصاحف المتواجدة تحت الركام’.