Menu
شرم الشيخ ووهم الإعمار

شرم الشيخ ووهم الإعمار

شرم الشيخ ووهم الإعمار   بقلم:د.عبد الباري عطوان بعد انقشاع غبار مؤتمر شرم الشيخ الذي انعقد يوم أمس الأول تحت عنوان إعادة إعمار قطاع غزة، يمكن أن نقول بأن الخاسر الأبرز هو أبناء القطاع أنفسهم على المديين القصير والبعيد، أما الرابح الأكبر، ودون أي جدال، فهو الرئيس المصري حسني مبارك، في الوقت الراهن على الأقل، ويأتي بعده، وبدرجة أقل، رئيس السلطة في رام الله السيد محمود عباس. رصد خمسة مليارات دولار نصفها لدعم السلطة في رام الله ونصفها الآخر لإعادة الإعمار هو خطوة تبدو انجازاً للوهلة الأولى، ولكن علينا أن نتذكر أن ما حدث هو مجرد ’وعود’ بدفع هذه المبالغ، مشروطة بتحقيق أهداف سياسية، وتوفير ظروف ووقائع معينة على الأرض. لنكن أكثر صراحة، ونقول إن هناك هدفين وراء عقد هذا المؤتمر، الأول جوهري، والثاني ثانوي، الجوهري هو رد الاعتبار للرئيس المصري حسني مبارك ونظامه، بعد أن اهتزت صورته داخلياً في أوساط الشعب المصري، وخارجياً في أوساط العرب والعالم، بسبب إدارته السيئة أثناء العدوان الوحشي على قطاع غزة، وتخبطه في التعامل مع مسألة المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين من خلال إغلاق معبر رفح. صورة النظام المصري اهتزت وبلغت ذروة اهتزازها عندما طعنها أقرب حلفائها، أي الإسرائيليون والأمريكيون، فالإسرائيليون أوقفوا الحرب من جانب واحد، ودون أي التزام بالمبادرة المصرية، والأمريكيون وقعوا اتفاقاً أمنياً معهم لمراقبة حدود مصر ومنع التهريب عبرها إلى غزة دون علم النظام المصري، ناهيك عن التشاور معه. الرئيس مبارك أفاق، وربما متأخراً، على تراجع دور بلاده، وتفاقم حالة الغليان الداخلي بسبب ذلك، فقام بجولات أوروبية وعربية، وتضامن مع البحرين في مواجهة تشكيك إيراني بعروبتها، وطار إلى الخرطوم للقاء الرئيس البشير، ولم ينس زيارة الرياض لتنسيق المواقف إزاء المصالحة مع سورية. مؤتمرا شرم الشيخ، الأول الذي انعقد قبل قمة الكويت الاقتصادية، والثاني الذي اختتم أعماله أمس الأول، جاءا بمثابة ’فزعة’ لدعم الرئيس مبارك من قبل أصدقائه مثل نيكولا ساركوزي (فرنسا) وسلفيو برلسكوني (إيطاليا) اللذين شاركا في المؤتمرين، والسيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية التي شاركت في الثاني. جميل أن يحاول الرئيس مبارك استعادة دور مصر الضائع وسط نهوض إيراني وآخر تركي وثالث إسرائيلي متغول، ولكن المهم أن يجري توظيف هذا الدور في الاتجاه الصحيح، وبما يعيد لمصر مكانتها الريادية، وليس من خلال خداع النفس، وتصديق الأوهام. فمن طالع الصحف المصرية الرسمية أمس وصفحاتها الأولى وهي تتغنى بالانجازات الكبرى في شرم الشيخ، وتدبيج الافتتاحيات حول استعادة مصر لدورها وريادتها، وعناوين بكل الألوان من أحمر وأخضر وأسود يدرك ما نريد الوصول إليه. حضور برلسكوني وكلينتون وساركوزي مؤتمر شرم الشيخ لا يعيد لمصر دورها أو مكانتها، وإنما بتغيير منهجها السياسي الراهن الذي ثبت فشله وكارثيته على مصر والمنطقة بأسرها، وبالعودة إلى المنابع التي فرضت الريادة والزعامة المصرية على المنطقة بل والعالم الثالث. نحن لا نطالب بخوض حروب، لأننا ندرك استحالة التجاوب مع هذا الطلب، وإنما باستخدام أوراق ضغط كثيرة يمكن أن تؤدي إلى إصلاح الخلل الذي لا يختلف عليه اثنان. لا ننكر أن رقم الخمسة مليارات دولار الذي تعهدت برصده الدول المانحة في شرم الشيخ، هو رقم كبير بكل المقاييس، ولكنه كم يبدو ضئيلاً إذا ما وضعنا في اعتبارنا أن الدول الخليجية وحدها خسرت أكثر من 600 مليار دولار على صعيد استثماراتها وصناديقها السيادية في الخارج، ناهيك عن الاستثمارات والمشاريع الداخلية بسبب الانهيار المالي الرأسمالي، وهذه الخسارة مرشحة للزيادة مع استمرار هذا الانهيار. الرئيس عباس الذي انهالت عليه عبارات المديح من كل الاتجاهات، سيحصل على بعض الدعم المالي الذي يخرج ميزانية السلطة من حال الإفلاس التي تعيشها، وجعلتها تستلف مبلغ 70 مليون دولار لدفع رواتب موظفيها في الضفة والقطاع (140 ألف موظف). وهناك من يقول إن هذا العجز مفتعل هدفه ’إرهاب’ هؤلاء في حال ’انحرافهم’ نحو الجبهة الأخرى بعد وصول الرهان على مفاوضات التسوية إلى نهاية مأساوية مهينة. المشردون في قطاع غزة هم الضحية، لأن أموال الإعمار لن تصلهم فوراً، وستحتاج بعض الوقت ريثما يتم الاتفاق على ’المرجعية’، والحصول على بعض التنازلات الجوهرية من حكومة ’حماس’، استجابة لشروط المانحين، عرباً وأجانب، مثل الاعتراف الكامل الصريح بدولة ’إسرائيل’ وحقها في الوجود، والقبول بحل الدولتين وفق التعريفات والمعايير الإسرائيلية المصدق عليها أمريكياً، وإسقاط حق المقاومة. رصد الأموال، كبر حجمها أو صغر، قد يعكس حرصاً مزيفاً على أبناء الشعب الفلسطيني وأرواح أطفاله، فأين كانت هذه الدول (75 دولة) عندما بدأ العدوان الإسرائيلي على القطاع، ولماذا لم تتدخل لوقفه، وتركته يستمر ثلاثة أسابيع، حتى لم تعد تجد الطائرات والزوارق والدبابات الإسرائيلية أهدافاً تقصفها فقررت التوقف والاكتفاء بما سفكته من دماء. تابعت شخصياً جميع الكلمات التي ألقيت أثناء جلسة افتتاح مؤتمر شرم الشيخ، والمؤتمرات الصحافية التي أعقبته، ولم أسمع عبارة واضحة تشير بقوة إلى المجازر الإسرائيلية في القطاع وتدينها، بما في ذلك كلمات المتحدثين العرب. ولم يطالب أي من المتحدثين ’إسرائيل’ بدفع قيمة إعادة إعمار ما دمرته، بل استجداء لها بأن لا تعيد تدمير ما سيتم إعادة بنائه. كنت أتمنى لو وقف زعيم أو مسؤول عربي وقال للرئيس الفرنسي أو الايطالي أو السيدة كلينتون الذين اشترطوا على ’حماس’ الاعتراف ب’إسرائيل’ وحل الدولتين، ماذا ستقدمون لهم في مقابل الاستجابة لكل هذا، وهل ستفرضون على نتنياهو الذي يرفض هذا الحل، ويعلن أن رفضه هذا هو سبب عدم دخول حزبي ’كاديما’ و’العمل’ في أي حكومة يشكلها، وكم من الوقت ستحتاجون لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ثماني سنوات أخرى أم ثمانين عاماً؟ إنهم يبيعون ’الوهم’ لأبناء فلسطين، وباتت المعادلة الجديدة المنبثقة عن مؤتمر شرم الشيخ ’الإعمار مقابل التهدئة الدائمة’، مما يعني التخلي عن مجرد التفكير بالمقاومة، والاستمرار في الدوران في مفاوضات عبثية حتى تكمل حكومة ’إسرائيل’ الاستيطان في كل أنحاء الضفة الغربية. فلهذا نحذر من عملية إعمار تريد خلق ’فتنة’ إضافية للفلسطينيين، وكأنهم بحاجة إلى المزيد من الفتن وتقسيم الصفوف، ومن أجل تحقيق الأهداف نفسها التي فشل الحصار والعدوان في تحقيقها. فلو كان الهدف من الإعمار تخفيف معاناة الفلسطينيين فلماذا يجري تسييسه من خلال شروط تعجيزية، ومن خلال سلطة لا تملك سلطة في القطاع؟ هناك حلول أخرى لتجنب الكثير من المشاكل، أبرزها تسليم الأموال والإشراف عليها إلى هيئة الأمم ومنظماتها المتخصصة للقيام بهذه المهمة، وإلزام الجميع بالتعاون معها، ولكن الهدف ليس الإعمار وإنما تركيع الشعب الفلسطيني وإذلاله، ودفعه إلى نسيان ثقافة المقاومة. النغمة الجديدة التي يكررها القادة والمسؤولون العرب هذه الأيام هي أن المبادرة العربية للسلام لن تبقى موضوعة على المائدة إلى الأبد.. هذا كلام طيب، ولكن قولوا لنا متى ستسحبونها، وهل هناك سقف زمني، سنة سنتان عشر سنوات؟ وفي حال سحبها هل هناك خطة بديلة؟ المنطق يقول بأن هناك ’الخطة ب’ في حال فشل ’الخطة أ’، فهل يتعامل النظام الرسمي العربي بهذا المنطق؟ لا نرى مؤشراً يفيد بالإيجاب. لم يأتنا من شرم الشيخ ومؤتمراته ما يسرنا كعرب ومسلمين، فهذا المنتجع أصبح مطبخاً للخطط التآمرية والتدميرية ونصب الأفخاخ والمصائد للأمة العربية، ولا نعتقد أن مؤتمر شرم الشيخ الأخير سيكون استثناء، ولذلك لا بد من الحذر الشديد في التعامل مع نتائجه تقليصاً للخسائر إذا لم يتأت منع الكوارث المترتبة عليه.