Menu

اليهود والعلو الكبير

اليهود والعلو الكبير    د. أمين الدمري      يخبرنا القرآن الكريم أنه بعد إنزال التوراة على موسى - عليه السلام - وتحريف اليهود لها وكتمانهم الحق وقتلهم الأنبياء وتركهم العمل بالتوراة؛ ضرب الله - تعالى - عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم ولعنهم. قال - تعالى -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: ٨٧ - ٩٧].واليهود على مسار التاريخ أهل إفساد ومثيرو حروب وفتن، وهم المستفيدون من وراء ذلك؛ فإن جوَّ الفتن والحروب والصراعات بين غيرهم من الأمم يخدم مصالحهم ويمهِّد لعلوِّهم ويمكِّنهم من تنفيذ مخططاتهم العدوانية وتوجهاتهم نحو الفساد والإفساد، فالعلوُّ بالنسبة لهم مرتبط بالفساد، وإذا تحقق العلوُّ والفساد كان ذلك إيذاناً بتدميرهم وتشريدهم في الأرض.وسورة الإسراء توضِّح سُنَّةً من سنن الله - تعالى - في بني إسرائيل، وقد بدأت السورة الكريمة بذكر الإسراء بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -  إلى بيت المقدس، والمغزى الأهم في الإسراء أنه كان إيذاناً بتحويل القيادة الدينية والنبوة من نسل إسحاق (بني إسرائيل) إلى نسل إسماعيل - عليهما السلام - أي: إلى النبي الأُمِّيِّ العربي. وبعد ذكر الإسراء وما أشار إليه من تحويل النبوة وتسليمها إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -  جاء ذكر قضاء الله وسنته في بني إسرائيل.ولعل الإسراء وما عناه من سلب القيادة الدينية والنبوة من بني إسرائيل كان إعمالاً لسُنَّة الله - تعالى - وقضائه فيهم.قال - تعالى -: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ٤ - ٨].والآيات الكريمات تشير إلى معانٍ كثيرة، منها ما يلي:1 - قوله - تعالى -: {وَقَضَيْنَا} فقضاء الله - تعالى - نوعان: قضاء شرعي، وقضاء كوني قدري. • أما القضاء الشرعي: فهو الأوامر والتكاليف الشرعية (افعل ولا تفعل...). وأوامره ونواهيه - سبحانه - فيها الخير والصلاح لكل البشر دون محاباة أو ظلم أو حرج.• أما القضاء الكوني القدري: فهو ما قدَّره الله - تعالى - وكتبه في اللوح المحفوظ؛ من خير وشر، وسلام وحرب، وصلاح وفساد، وعدل وظلم مما يقع في الحياة الدنيا وفي الأرض وفي واقع الناس وحياتهم إلى يوم القيامة. ولا يجوز الاحتجاج بهذا النوع من القدر؛ كالذي يعصي ويقول: كتب الله عليَّ المعصية! كما لا يظن ظانٌّ أن الله - تعالى - يأمر بفاحشة أو معصية؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبيان ذلك في سورة الإسراء قال - تعالى -: {وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: ٦١]، فالمعنى أن الهلاك له أسباب ومقدمات، وهو أن المترفين لما أمرهم الله - تعالى - بالطاعة لم يستجيبوا بل خالفوا وعصوا؛ فحقَّ عليهم قول الله فدمَّرها تدميراً. ولا يظن عاقل أن معنى الآية هو أن الله - تعالى - أمر المترفين بالفسق، فهذا جهل فاضح لا يليق إلا بالمجرمين الذين قال الله - تعالى - فيهم: {وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: ٨٢ - ٩٢]. هذه هي المسألة الأولى.2 - قوله - تعالى -: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ٤] يشير إلى أن هذا الفساد والعلو هما من القضاء الكوني القدري، وبالتأكيد ليسا من القضاء الشرعي كما سبق بيانه؛ وعليه؛ يكون معنى القضاء في الآية هو الإخبار والإعلام عما سيكون بأسبابه ومبرراته. ويشير قوله - تعالى - أيضاً إلى أن الإفساد مقترن بالعلوِّ. كما يشير إلى أن هذا العلوَّ لم يتزامن معه علوٌّ آخر، أي: لم ينازع هذا العلوَّ علوٌّ لأهل الخير والعدل، فكان العلو في غياب دولة الحق والعدل! لكن هذا العلوَّ إيذان بعلوٍّ آخر جديد يسعى إلى وضع حدٍّ لذلك العلوِّ المفسد لبني إسرائيل وهو ما سنراه في المسألة الثالثة.3 - قال - تعالى -:  {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} [الإسراء: ٥]، وهو يشير إلى أن الوعد الأول قد حدث ومضى، ألا وهو الإفساد والبعث أي: التسليط {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً}، لكن الأمر الجدير بالانتباه هو قوله - تعالى - {عِبَادًا لَّنَا} ولا بد من أنهم يتصفون بأهمِّ صفات أهل التمكين وهي: العدل وحب الخير وكراهية الفساد ومقاومته. وتتجلى هنا سنة التداول الحضاري، حيث إن هذا الجيل المهزوم تخلَّى عن الفساد أو إن هذا الجيل قد انقضى وانتهت مهمته وجاء جيل آخر لم يتصف بالفساد، فعادت له الكَرَّة مرة ثانية وهو قوله - تعالى - في المسألة الرابعة:4 - {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: ٦]. ومما يثير الانتباه هنا هو ضمير المتكلم وهو نون العظمة «رَدَدْنَا - أَمْدَدْنَاكُمْ - جَعَلْنَاكُمْ» وهو ما يؤكد تدخل القدر في سنة التداول بين الأمم حسب نظامها ومقدماتها وأسبابها. ولعل العودة إلى الكثرة ورد الكرة مرة ثانية هو اختبار ثانٍ للكشف عن مدى الاستفادة من دروس الماضي واستيعاب التجربة والاعتبار؛ إذ إن القاعدة سارية المفعول وهو ما جاء بيانه في قوله - تعالى - في المسألة الخامسة.5 - قال - تعالى -: {وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: ٨]؛ أي: إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى التسليط؛ أي تسليط من يسومكم سوء العذاب ويقضي على علوِّكم جزاء لأفعالكم وعودكم إلى الفساد، وهذه هي السُّنَّة الفاعلة في بني إسرائيل. ويحكي التاريخ أن رجلاً اسمه (يوسف ذو نواس) كان نصرانياً لكنه ترك النصرانية واعتنق اليهودية وذلك في القرن الخامس الميلادي (523م)، وكان تابعاً لمملكة حِمْير في جنوب اليمن، وكان يدعو إلى اليهودية ويُكرِه النصارى على الدخول في اليهودية، واشتدَّ أذاه بأتباع عيسى - عليه السلام - حتى إنه حفر لهم أخدوداً وأضرم فيه النيران وألقى فيه كل من أبى أن يتهود، وقد ذُكرت قصة هؤلاء في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْـمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْـحَمِيدِ} [البروج: ٤ - ٨]. فلما أُحرق هؤلاء المؤمنون على يد اليهود بزعامة (ذو نواس)، وقد علم بذلك ملك الروم فأرسل إلى النجاشي ملك الحبشة بأن يجهز جيشاً ليؤدب هؤلاء المجرمين، فجهز جيشاً بقيادة أبرهة وهزم هذا اليهودي ومن معه وشرَّدهم في البلاد. (وعادت السيادة إلى النصرانية مرة ثانية وأقيمت فيها كنيسة وهي التي لطخها واحد من العرب فأقسم أبرهة أن يهدم الكعبة، فجهز جيش الفيلة وعاد أبرهة خائب الرجاء فاقد الأمل وذلك فيما سُمِّي بعام الفيل...). فكان تسليط أبرهة على اليهود في اليمن حسب السُّنَّة الفاعلة!وتفرَّق اليهود فلم يجدوا ملجأ غير يثرب التي تجمَّعوا فيها انتظاراً لنبي مرسل يخلصهم ويقاتلون معه الأميين (أي: غيرهم من الأمم)، فلما بُعِثَ النبي من أمة العرب حسدوه وعادَوْه ونقضوا عهده فقاتلهم وشرَّدهم، وكان تسليطاً آخر.ولقد عاش اليهود في ظل الحكم الإسلامي والخلافة الإسلامية التي دامت قروناً من الزمان، ووجدوا فيها الحماية والأمان ولم يجدوا فرصة للإفساد. ولما دارت الدائرة على المسلمين وضعفت شوكتهم وجد اليهود فرصتهم وهوايتهم وعادوا إلى الإفساد حتى كان حرقهم وقتلهم وتشريدهم على يد (هتلر) حيث أباد منهم الكثير.ولم يتعلم اليهود من دروس الماضي، ولم يتخلوا عن الإفساد والإجرام حتى قرر سفهاؤهم أن يقيموا لهم وطناً في فلسطين عدواناً وظلماً واحتلالاً ونهباً. وفي غيبة الوعي الإسلامي وفي غيبوبة العالم الإسلامي استطاع اليهود أن يقيموا دولة ويفرضوا واقعاً لا أساس له من الحق أو العدل. وفي أقل من عشرين عاماً استطاعت الدولة العبرية أن تحتل أراضي أخرى وأن تتوسع شمالاً وجنوباً وشرقاً؛ فاحتلت هضبة الجولان والضفة الغربية وسيناء (عام 1967م)، ثم في أقل من ستين عاماً من قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية المسلمة قامت إسرائيل بأقذر حرب ضد سكان غزة وأحرقت أهلها من أطفال ونساء وشيوخ بالفوسفور الأبيض واليورانيوم، والعالم كله يتفرج، ولم يستطع أحد على وجه الأرض أن يأخذ على يدها أو يمنعها في غيبة النخوة الإسلامية التي قد تأكدت إسرائيل أنه لا وجود لها عند كثيرين (لأن العرب تثقفوا بثقافة السلام والخنوع والاستسلام للذابح)! وهذا إفساد آخر قد عادوا إليه.وهنا أستطيع القول: إن العدوان على غزة إيذان ببعث جديد للإسلام، وجيل جديد يحمل على عاتقه تأديب اليهود وأعوانهم من الخونة والعملاء الذين شجعوا إسرائيل وأعطوها الفرصة للعلوِّ الأخير. وبعون الله - تعالى - سوف يكون هذا العلوُّ آخر علوٍّ وإفساد لإخوان القردة والخنازير.هذا الجيل سيكون - بعون الله وتقديره - هو الجيل المأمول الذي سيُناط به رفع الذلة والظلم عن المسلمين وتحرير البلاد والعباد من إجرام الطواغيت.وحسب سنة الله - تعالى - في خلقه فإني أرى – وبعد مضيِّ قرون من الانهيار الحضاري الإسلامي – أن الدائرة القادمة والدولة لأهل الإيمان الحق والإسلام الصحيح الذين وصفهم الله - تعالى - في الآيات السابقة بقوله: {عِبَادًا لَّنَا} [الإسراء: ٥].لقد عانت الصحوة الإسلامية منذ عشرات السنين الكثير من ألوان التشويه والاضطهاد من العدو القريب والبعيد، وحسب سنة الله - تعالى - فإنه مع الصبر والثبات سيأتي الفرج بإذن الله - تعالى -: {إنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ} [يوسف: ٠٩].