Menu

زعماء قريش يشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم

عُرِفَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قومه قبل بعثته بأخلاق عظيمة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأصدقهم حديثاً، وأوفاهم عهداً، وأشهرهم أمانة حتى سمَّاه قومه: "الصادق الأمين". ومن ثم استدلت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بصدقه وأخلاقه على عناية ورعاية الله له، وذلك بعد ما جاءه جبريل بالوحي في غار حراء، وقال له: "اقرأ"، فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة رضي الله عنها لمَّا قال لها ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) رواه البخاري.
ومما لا شك فيه أن شهادة أعداء النبي صلى الله عليه وسلم له بالصدق تدل على اشتهاره بذلك، ثم إن شهادة الخصوم والأعداء لها وزنها، فقد روى البخاري قصة أبي سفيان ـ قبل إسلامه ـ، وفيها سؤال هرقل ملك الروملأبي سفيان: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: قلت: لا"، وفي آخر القصة يقول هرقل لأبي سفيان: "وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى".

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأقوال لبعض زعماء وسادات قريش، يشهدون فيها للنبي صلى الله عليه وسلم بصدقه، رغم عدم إيمانهم به وعداوتهم له، ومن هؤلاء:

أبو جهل:
عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميّ من قبيلة كِنانة، أحدُ أبرز وأهمّ ساداتِ قريش في الجاهلية، وواحدٌ من ساداتها المُطاعين، وكان يُكَنَّى بأبي الحكم، وأما كنيته المعروف والمشهور بها "أبو جهل" فقد كنَّاه بها النبي صلى الله عليه وسلم لشدة محاربته له وعداوته للإسلام. قال ابن القيم وهو يتحدث عن الكنية التي كناه بها النبي صلى الله عليه وسلم: "وكذلك تكنيته لأبي الحكم بأبي جهل، كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحق الخلق بهذه الكنية".
وعن عليّ رضي الله عنه: "أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام :33)) رواه الترمذي.
قال ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى": "سأل المسور بن مخرمة خاله أبا جهل عن حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال: يا خالي! هل كنتم تتهمون محمداً بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يا ابن أختي، والله! لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذباً قط، قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟ قال: يا ابن أختي! تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب (جلسنا على الركب للخصومة) كنا كفرسي رهان (متساويين في الفضل)، قالوا: مِنا نبي، فمتى ندرك مثل هذه؟!. وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟".

وقال القرطبي عند تفسيره قول الله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}(الجاثـية:23): "قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! وما دلك على ذلك؟! قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنه لصادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟! قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدا فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(الجاثـية:23)".
وقال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33): "أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم، كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن عليّ رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}".

أبو لهب:
هو عبد العزى بن عبد المطلب، من زعماء وصناديد الكفر بمكة، ومن أشد الناس تكذيباً وإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214)، صعد النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا (جبل الصفا) فجعل ينادي، يَابني فِهْرٍ، يَابني عَدِيٍّ ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم (أخبروني) لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا!! (وفي رواية قالوا: ما جربنا عليك كذبا)، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً (هلاكا) لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}(المسد2:1)) رواه البخاري. فلو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم صادقا، لاتهمه أبو لهب بالكذب، ولكنه كان ضمن من قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما جربنا عليك إلا صدقا).

الحارث بن عامر:
قال البيهقي في "دلائل النبوة": "كان الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفل بن عبْد مَنافٍ، يكذب النبي صلى الله عليه وسلّم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد مِنْ أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33)".
وقال مقاتل عن قول الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33): "نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى هذه الآية".
وذهب الحارث بن عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا، فنزل قول الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا}(القصص:57)، قال ابن كثير في تفسيره: "وقد قال النسائي: أنبأنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة قال: قال عمرو بن شعيب، عن ابن عباس ـ ولم يسمعه منه ـ: أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}".

قصة استماع الكثير من زعماء وكبار قريش إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم:

في السيرة النبوية لابن هشام: ".. أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود: فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا".

رغم علم وشهادة أبي جهل وأبي لهب والحارث بن عامر والأخنس بن شريق وغيرهم من زعماء وسادات قريش بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته، إلا أنهم لم يؤمنوا به، بل عادوه وحاربوه، وما ذلك إلا حسداً وجحودا واستكباراً، وقد قال الله عن هؤلاء وعن أمثالهم - من أهل الكتاب وغيرهم - ممن كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمنوا به، وهم يعلمون صدقه ونبوته: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33). قال الماوردي: "لقد كان صلى الله عليه وسلم محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبًا وللصدق مجانبًا.. حتى صار بالصدق مرقوماً وبالأمانة مرسوماً (موصوفا)، وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام، فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه، فمنهم من كذبه حسداً، ومنهم من كذبه عناداً، ومنهم من كذبه استبعادا أن يكون نبياً أو رسولاً، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة.. ومن لزم الصدق في صِغره كان له في الكِبَر ألزم، ومَنْ عُصِم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم، وحسبك بهذا دفعاً لجاحدٍ ورداً لمعاند".