Menu

الإيمان وعمل الصالحات وأثرهما في علو همة المسلم

بسم الله الرحمن الرحيم الإيمان وعمل الصالحات وأثرهما في علو همة المسلم د. مسلم اليوسف إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى مِن شرورِ أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهدِ الله فلا مضلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].  ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].  ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].  أما بعد: فإنَّ خيرَ الكلام كلامُ الله تعالى، وخير الهَدْي هديُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّ شرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدَثة بِدْعة، وكل بِدْعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار.  فهذا مبحَث مبسَّط بينتُ فيه أثرَ الإيمان وعمل الصالحات في علوِّ همَّة المسلم، أرجو من طلاب العِلم وطلاَّب الهمة الاستفادةُ منه.  ذلك أنَّ الإيمان وعمل الصالحات أمران مترابطان مع بعضهما البعض، ترابُطَ الأرض بالزرع، فلا يُتصوَّر وجودُ الزرع إلا بوجود الأرْض، ولا يُتصوَّر وجودُ إنسان مؤمن بالله - عزَّ وجلَّ - إلا ويعمل الصالحات، ويؤكِّد هذا الترابطَ ما جاء في القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 30]. وقال أيضًا - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 60].  قال شيخ الإسلام: "الإيمانُ المطلَق مستلزمٌ للأعمال، بدليل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [السجدة: 15]"[1].   أولاً الإيمان: إنَّ الإيمان هو الباعِثُ الأوَّل لعلو الهمَّة في نفوس المؤمنين، وهو الذي يحيي النفوس بعدَ موتها، ويُضيء العقول والأذهان، ويبعث العزيمة والإرادة القوية؛ لمحاربة الشيطان، والرُّقي نحوَ الكمال.  قال الله تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].  قال البيضاويُّ في تفسير هذه الآية: "أي: إنَّ الله هداه، وأنقذه مِن الضلال، وجعَل له نور الحُجج والآيات، يتأمَّل بها في الأشياء، فيميِّز بين الحق، والباطل"[2].  وقال ابنُ كثير في تفسيرها أيضًا: "هذا مثَل ضرَبه الله تعالى للمؤمِن الذي كان ميتًا؛ أي: في الضلالة، هالكًا حائرًا، فأحْياه الله؛ أي: أحْيا قلْبَه بالإيمان، وهداه له، ووفَّقه لاتِّباع رسله"[3].  قال السعديُّ - رحمه الله -: "فأحييناه بنورِ العِلم، والإيمان والطاعة"[4].  فالإيمان هو النور الذي أحْيا به الله تعالى النُّفوسَ بعدَ موتها، فهذا هو الإيمان الذي تعْلو به الهِمم أو تنقُص، فإنْ علا الإيمان عندَ العبد المسلم كان مِن أصحاب الهِمم العالية الذين يتسابقون إلى المكارِم، ويتسابقون إلى الوصول إلى رضوان الله تعالى، لا يتعبون ولا يملُّون، ولا يكلُّون بهمَّتهم العالية، وإنْ نقص الإيمان أو فتر، فإنَّ الهمَّة تنقُص وتضعف، وتُصبح المطالب دنيئةً، والأماني ضعيفة.  يقول الطحاويُّ - رحمه الله تعالى -: "إنَّ التفاوت في الإيمان هو درجات نور لا إله إلا الله في قلوبِ أهْلها، ولا يُحصيها إلا الله تعالى، فمِن الناس مَن نور لا إله إلا الله في قلْبه كالشمس، ومنهم مَن نورها في قلْبه كالكوكب الدُّري، وآخَر كالمشعل العظيم، وآخَر كالسِّراج المضيء، وآخَر كالسِّراج الضعيف؛ ولهذا تظهر الأنوار يومَ القيامة بإيمانهم، وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم مِن نور الإيمان والتوحيد، علمًا وعملاً، وكلَّما اشتدَّ نورُ هذه الكلمة وعَظُم، أحرق مِن الشبهات والشهوات بحسب قوَّة هذه النور".   وصاحِب الهمَّة العالية يَسعى لأنْ يكون نور لا إله إلا الله في قلْبه كالشمس الساطِعة التي تُنير درْبه، وهو حريصٌ أشدَّ الحِرص على ألاَّ تنطِفئ في قلْبه، وعمله وحياته. قال تعالى: ﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 120 - 121]، انظرْ إلى هذا الموقِف الذي أشْعله الإيمان في قلوب سَحرة فرعون ماذا فعَل بهم؟  وإنَّ الطاغوت الفرعوني المتجبِّر لم يدركْ هذا النور الذي دخَل في قلوبهم؛ ولذلك فُوجِئ بالمشهد ﴿ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 123].  لقدْ لجأ فرعونُ إلى اتِّهامهم في إيمانهم الذي أصبح أغْلَى شيءٍ عندَهم، حيث وصفَهم بعدمِ الإخلاص، وأنَّهم مجرَّد متظاهرين بهذا الإيمان، وللوصول مِن خلاله إلى مآربَ مادية، وهي الاستيلاءُ على خيرات مصر، والسيطرة عليها، ثم لجأ فرعون ثانيًا إلى التهديدِ بإيقاع العذاب البَدني عليهم، والتلويح بالإيذاء الجَسَدي الشديد؛ ليردَّهم عن إيمانهم الذي أعْلا همَّتَهم؛ ليواجهوا جبروتَ فرعون، فأجابوا: ﴿ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 125 - 126].  ألا ما أروعَ هذه الإجابةَ! التي تنمُّ عن صادِق إيمانهم، وقوَّة يَقينهم، وعلوِّ همَّتهم واستعدادهم لبذْلِ أرواحهم رخيصةً في سبيل مبادئهم التي آمنوا بها؛ قال زكريا يوسف: "إنَّها لمسةُ الإيمان في القلوب التي كانتْ منذُ لحظة لفرعون منه مغنمًا يتسابق إليه المتسابِقون، فإذا هي بعدَ لحظة تواجهه في قوَّة، وترخص ملكه وزخرفه، وجاهه وسلطانه"[5].  الله أكبر! إنَّه الإيمان الذي يأبَى أن يكون فقط عواطف وجدانية، فيثور مِن باطن الإنسان، ومِن داخله، ولكي نبذلَ الإيمان على واقِع الحياة الخارجي عملاً، وهمَّةً عالية خالصةً لله ربِّ العالَمين.  يقول سيِّد قطب - رحمه الله تعالى -: "إنَّه موقفٌ حاسم في تاريخ البشريَّة بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصارِ العزيمة على الألَم، وانتصار الإنسان على الشيطان، وإعلان ميلاد الحريَّة الحقيقية التي تستعْلي بالعقيدة على جبروت المتجبِّرين، وطغيان الطُّغاة، وتستهين بقوَّتِهم التي تعجز عن استذلالِ القلوب والأرواح، وإنْ تسلطْنَ على الأجسام والرِّقاب"[6].   فلمْ يأبهِ السحرةُ الذين ملأ الإيمانُ قلوبَهم لتهديد فرعون ووعيده، وردُّوا عليه قائلين: ﴿ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ﴾ [طه: 72].  وهذا يدلُّ على أنَّ إيمانهم لم يكن نزوةً عاطفيَّة آنية، أو ردَّة فِعْل عكسي لمشاهدتهم.  إنَّ الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - يُعدُّ أهمَّ سببٍ مِن أسباب علو الهمَّة، حيث يعتبر الأساسَ الذي لا يقوم جسمُ الدِّين إلا به، والرُّوح الذي لا حياةَ للدِّين بدونه، والسرُّ في كون الإيمان بالله أساس الدِّين وتعاليمه أنَّ هذا الإيمان هو الدافِع، والمحرِّك للإنسان للصعود إلى كمالات الأُمور في الدُّنيا والآخِرة.  قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجَد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرَه أن يعودَ في الكُفر كما يَكرَه أن يُقذفَ في النار))[7].  قال الإمامُ النوويُّ - رحمه الله تعالى - معلِّقًا على هذا الحديث: "هذا حديثٌ عظيمٌ، أصلٌ مِن أصول الدِّين، ومعنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات، وتحمُّل المشقَّات في الدِّين، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، فمحبَّةُ العبد تحصُل بفعْل طاعته، وترْك مخالفته، وكذلك محبَّة رسولِ الله  - صلَّى الله عليه وسلَّم"[8].  وممَّا يُفهم مِن كلام النووي أنَّ الذي يذوق حلاوةَ الإيمان عالي الهمَّة، يتحمَّل المشاقَّ بهمَّة، فيسهر ويتْعب من أجْل الحِفاظ على هذه الحلاوة التي ذاقها، فيعرض عنِ الدنيا شهواتها وملذَّاتها؛ ليصلَ إلى طاعة الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.  ولا ننسى أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حبَّب إلينا الإيمان، وزيَّنه في قلوبنا، وهذا ما أكَّده ابنُ كثيرٍ في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7]. حيث قال: "أي: حبَّبه إلى نفوسِكم، وحسَّنه في قلوبكم"[9].   فالإيمان سببٌ عظيم لعلو الهمَّة؛ حيث إنَّ الله حبَّبه وحسَّنه للمؤمن المتَّصف بصفات الرُّشد، فمَن وجد هذه الحلاوة وهذا الحبَّ للإيمان في قلْبه، وجَد في نفسه همَّةً عالية، وقادَه ليصل إلى أعْلى وأكمل المراتب.  قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]. قال الرازي في تفسير هذه الآية: "وهذه الآية تدلُّ على وجوب الجِهاد في كلِّ حال؛ لأنَّ الله تعالى نصَّ على أن تثاقلهم عن الجهاد أمرٌ منكر، ولو لم يكُن الجهاد واجبًا لما كان هذا التثاقُل منكرًا"[10].  ومِن أجْل ألاَّ يتثاقل المؤمنون أَمْرَ الجهاد، لا بدَّ مِن الإيمان الذي يسبقه، الذي هو الدافِع للجهاد في سبيلِ الله، وخلاصةُ القول: أنَّ الإرادة القويَّة، والهمَّة العالية توجد حيث يُوجد الإيمان الحقيقي[11].  فكلَّما ضعفتْ إرادة العبد ووهنت قوَّته في السعي في المعالي، أمدَّه هذا الإيمان الصادق بقوَّة قلبيَّة، وكلَّما أحاطتْ به المخاوف كان هذا الإيمان حصنًا حصينًا يلجأ إليه المؤمِن فيطمئن قلبه، وتسكن نفْسه[12].  قال شيخ الإسلام ابن تيمية واصفًا أهلَ الإيمان: "ينالون في المدَّةِ اليسيرة من حقائقِ العلوم والأعمال، أضعافَ ما يناله غيرُهم في القرون والأجيال"[13].  ومِن المعلوم يقينًا أنَّ الإيمان حين يتغلغل في النفوس وتخالط بشاشتُه القلوب أنَّه هو أوَّل سلاح يتسلَّح به الإنسان المسلِم في مواجهة صِراع الحياة، وفي مجابهة مغرياتِ الدُّنيا، سواء كان هذا الإنسان متقهقرًا أو متقدِّمًا، فبدون الإيمان يبطل السِّلاح، والهمَّة كذلك لا ترتفع لتحقِّق للإنسان ما يُريد إلا بذلك الإيمان، الذي هو الدافِع لكلِّ التصرُّفات، والأفعال السلوكيَّة والوجدانيَّة للإنسان.  وأخيرًا: أُريد أن أقِف على همَّة رجل مِن الرِّجال الذين آمنوا بالله - عزَّ وجلَّ - فكانتْ همَّته دافعةً له للوصول إلى الحقِّ وإلى المعالي، وهو مؤمنُ يس، وهو الرَّجُل الذي قال فيه الله سبحانه في سورة يس: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴾ [يس: 20]، والذي جاء ذِكْره في قصة أصحابِ القرية التي جاءَها الرُّسل مبلِّغين ومنذرين؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ [يس: 13 - 14]، حيث سمِع هذا الرجلُ بنزول رُسُل الله على هذه القرية منذرِين مبلِّغين لقومٍ ما زادهم تعزيزُ الرسل إلا تكذيبًا، بل تجرَّؤوا عليهم، وهدَّدوهم بالقتْل، كما أخْبر الله عنهم، فقال: ﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يس: 18]، فيتحرَّك هذا الرجلُ بهمَّته ساعيًا على قدميه، معلِنًا إيمانه بربه وبما جاء به الرُّسل، ويهبُّ لنُصرة دِين الله ونُصرة رُسله، بل لإنقاذ قومه مِن ضلالات الكُفر وبراثن الشِّرْك.  لقد نقَل لنا القرآنُ الكريم مشهدًا عظيمًا من همَّة هذا الرجل، مشهدًا فريدًا لدعوته التي قرَنها بالحمية، وزيَّنها بحُسن الاتِّباع، وصدَع بها بقوَّة العقيدة والإيمان.  قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ [يس: 20 - 25].  لقدْ جاء صدعُه بإيمانه مدويًا تعجز الكلمات عن الإتيان بوصْفٍ له، كما وصفَه القرآن: ﴿ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ [يس: 25]، حيث جاء مؤكدًا في أوَّله بحرف التوكيد (إن)، وجاء معزَّزًا في آخره بطلبِ السماع.  وهذه هي الصرخةُ الإيمانية التي تُعلي الهِمم، وترفع العزائم؛ قال سيِّد قطب - عليه رحمة الله - في ظلال هذه القصَّة: "إنها استجابةُ الفِطرة السليمة لدعوة الحقِّ المستقيمة، فيها الصِّدق، والبساطة، والحرارة، واستقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القوي للحقِّ المبين، فهذا رجلٌ سمِع الدعوة، فاستجاب لها بعدَما رأى فيها مِن دلائل الحق والمنطق ما يتحدَّث عنه في مقالته لقومِه، وحينما استشعر قلبُه حقيقةَ الإيمان تحرَّكتْ هذه الحقيقة في ضميره، فلم يُطِق عليها سكوتًا، ولم يقبعْ في داره بعقيدته، وهو يرَى الضلال مِن حوله، والجحود والفجور، ولكنَّه سعى بالحقِّ الذي استقرَّ في ضميره، وتحرَّك في شعوره إلى قومِه الذين كذَّبوا الرُّسل وتوعَّدهم، فجاء مِن أقصى المدينة يسْعَى؛ ليقومَ بواجبه في دعوة قومِه إلى الحق، وفي كفِّهم عن البغي، وظاهر أنَّ الرجل لم يكن ذا جاه، ولا سلطان، ولم يكن في عزوةٍ من قومه، أو مَنَعة من عشيرته، ولكنَّها العقيدة الحيَّة في ضميره تدفعُه، وتجيء به مِن أقصى المدينة إلى أقصاها، وبصِدق الفطرة الصادق يقرِّر قرارَه الأخير في وجهِ قومه المكذِّبين، حيث صوت الفِطرة في قلبه أقوى مِن كلِّ تهديد، ومن كل تكذيب: ﴿ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ [يس: 25]، فألْقَى كلمة الإيمان الواثقة المطمئنة، وأشهدَهم عليها، وهو يُوحي إليهم أن يقولوها كما قالها، وألا يُبالي ماذا يقولون"[14].  ثانيًا: عمل الصالحات: تُعدُّ عبادة الله وعمل الصالحات والاستقامة على منهجه، مِن أهمِّ أسباب علوِّ الهمَّة بعدَ الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - فإذا كان الإيمانُ بالله هو أساسَ الهمَّة العالية، فإنَّ العملَ الصالح هو المظهرُ العَمَلي السُّلوكي لهذا الإيمان، فالعملُ الصالح هو الذي يجعَل الإيمان حيًّا في النفوس، فيجعله بذلك قوةً دافِعةً له، وهو الذي يؤكِّد جذورَ الإيمان ويغذيه[15].  مِن أعظم آثار العمل الصالح الخالِص لله تعالى إعلاء الهِمم، فالعبادة والطاعة هي التي تجْعل الإنسان قويًّا في معركة الحياة التي بُنيت على الصِّراع بين الحق والباطِل. قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون ﴾ [فصلت: 30].  قال الثَّعالبي: "أي: إنهم لم يُشرِكوا بالله شيئًا، واستقاموا على طريقةِ الله - عزَّ وجلَّ - وطاعته، وعلى أداء فرائِضه"[16].  إنَّ صاحب الهمَّة العالية يَفهم معنى لا إله إلا الله فهْمَ العاقلين الموحِّدين، فيشعر بلذَّتها، فتكون له كالشمس تُنير نفْسه وقلْبه، وتنعكس على عملِه، فنراه كثيرَ الاجتهاد والعمل لمرضاةِ الله تعالى، بأداء أوامِره، واجتناب نواهيه، وممَّا هو معلومٌ أنَّ الله يتولَّى وينصُر أولئك الذين يَعملون الصالحات، ويبتغون رضوانه، ويؤمنون به إيمانًا حقيقيًّا.  قال تعالى: ﴿ هْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16].  قال ابنُ كثير في تفسير هذه الآية: "أي: طريق النجاة والسلامة ومناهِج الاستقامة"[17].  وقال السعديُّ - رحمه الله -: "أي: يَهدي به مَن اجتهد وحرَص على بلوغ مرضاةِ الله، وصار قصدُه علنًا سبل السلام التي تُسلِّم صاحبها مِن العذاب، وتوصله إلى دارِ السلام، وهو العِلم بالحقِّ والعمل به، إجمالاً وتفصيلاً"[18].   فمَن اتَّبع رضوان الله تعالى، كان شغلُه الشاغل أن يَنطلِق بعمله الصالِح؛ ليعلي همَّته ويرفعها للوصولِ إلى ذلك الرِّضوان.  قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].  قال ابنُ القيِّم: "ليس العجبُ في قوله ﴿ وَيُحبُّونَهُ ﴾، إنَّما العجبُ من قوله ﴿ يُحِبُّهُمْ ﴾ فليس العجبُ مِن فقيرٍ مسكين يحبُّ محسنًا إليه، إنَّما العجب مِن محسنٍ يحبُّ فقيرًا مسكينًا!"[19].  فمَن أراد الوصولَ إلى هذه المحبَّة، فليعمل الصالحات؛ ليُعليَ همَّته، فيجود بالنفس والنفيس في سبيلِ تحصيل هذه الغاية؛ وذلك لأنَّه علِم أنَّ المكارم منوطةٌ بالمكاره؛ ولذلك فإنَّ المصالح والجنات، والمحبة والرضوان، لا تُنال إلا بحظٍّ من المشقَّة، فلا يُعْبَر إليها إلا على جسْر من التَّعب.   بَصُرْتُ بِالرَّاحَةِ الْكُبْرَى فَلَمْ أَرَهَا تُنَالُ إِلاَّ عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ [20]  قال تعالى: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 223].  قال القرطبيُّ: "أي: قدِّموا لأنفسكم الطاعة والعمل الصالِح، وما تُقدِّموه من خيرٍ تجدوه عندَ الله تعالى"[21].  إنَّ المؤمنين أصحاب العمل الصالِح هم أكثرُ الناس استقرارًا وطُمأنينة؛ لما يقدِّمونه لأنفسهم مِن الأعمال الصالحة التي تُقرِّبهم إلى الله تعالى، فنجدهم أعْلَى همةً، وأقوى عزيمةً؛ لأنَّ الإيمان الذي يدعمه عملٌ صالح هو الذي لا يَقدِر عليه إلا أصحابُ الهِمم العالية، فمَن عمِل الصالحات، وجاهَد النفْس والهوى، اشتعلتْ نفْسُه هِمةً وعزيمةً قوية.   فالعلاقة بيْن الإيمان الموجِب لعمل الصالحات والهمَّة، هي علاقةٌ وثيقة، فإنِ ازداد الإيمان وارتَفع العمل الصالح، زادتِ الهمة وارتفعَتْ، وإذا نقَص الإيمان وأهمل العمل الصالح، نقَصَتْ وضعُفتْ هذه الهمَّة. المصدر: موقع الألوكة.